مقال قانوني متضمن شرح وتفسير عقود المقاولة من الباطن وتمييزها عن غيرها من الأعمال والتصرفات المشابهة



مقدمة:

يعد التعاقد من الباطن حالياً من أبرز العقود التي تنعقد بهدف تنفيذ أعمال المقاولة كما أن عقد المقاولة هو عقد يلتزم بمقتضاه المقاول بإتمام عمل معين لصاحب العمل مقابل بدل أجر، ومع تطور أعمال المقاولة وتنوعها أصبحت قدرة المقاول على إنجاز الأعمال وحده دون الاستعانة بأية مساعدة من الغير شبه مستحيلة باستثناء بعض أنواع المقاولات البسيطة التي يستطيع المقاول تنفيذها بنفسه.

إلا أن أغلب المقاولات الحديثة لا يمكن للمقاول تنفيذها إلا بواسطة استعانته بالغير وذلك عبر إجراء ما يعرف بالتعاقد من الباطن، كما في مقاولات البناء الكبرى أو على أقل تقدير يستعان بهؤلاء على صورة مساعدين للمقاول الرئيسي .

أولا: المقاولة من الباطن في ضوء قانون المعاملات المدنية بدولة الإمارات العربية المتحدة

في عقد المقاولة من الباطن يقوم المقاول الرئيسي بالاستعانة بمقاولين آخرين من أجل تنفيذ أعمال المقاولة التي التزم بها في العقد الأساسي فينفذ المقاول من الباطن هذه الأعمال على نحو مستقل

وتم إيضاح ذلك وفقاً لصريح نص المادة (890) من قانون المعاملات المدنية حيث نصت علي أنه 1 – يجوز للمقاول أن يكل تنفيذ العمل كله أو بعضه إلى مقاول آخر إذا لم يمنعه شرط في العقد أو لم تكن طبيعة العمل تقتضي أن يقوم به بنفسه.

2 – وتبقى مسؤولية المقاول الأول قائمة قِبل صاحب العمل.

ومع تطور أساليب الفن المعماري وإلزامية التخصص المهني بمجال محدد أصبح للمقاولات الفرعية مكانة بارزة في يومنا، فقد نشأت مقاولات متخصصة في مجالات عدة ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، أعمال البناء والترميم والهدم والتصميم والديكور وأعمال التركيبات الكهربائية والإلكترونية والحجارة …. الخ وقد عرفت هذه المقاولات ب “التعاقد من الباطـن”، ويتم اللجوء إلى هذا النوع من التعاقد في حالتين:

الحالة الأولى:


تتمثل في عدم توفر الإمكانيات الكافية للمقاول الرئيسي سواء الفنية أو المادية وحاجته لإنجاز المشروع لضخامته، مما يؤدي إلى حاجته لمزيد من الإمكانيات كي يتمكن من تنفيذ المشروع نظراً إلى محدودية وسائله بالنسبة لحجم المشروع عندما يكون ضخما.

الحالة الثانية:

 

وهي حالة عدم توفر الوقت اللازم أمام المقاول الرئيسي لإنجاز المشروع لإمكانية تسليمه في المدة المتفق عليها في عقد المقاولة الرئيسي فيلجأ الى التعاقد من الباطن بهدف تسليم المشروع في المواعيد المتفق عليها تجنبا لمخالفة التزاماته العقدية فتتم في هاتين الحالتين الاستعانة بمقاولين آخرين متخصصين لإنجاز تنفيذ العمل علي وجه السرعة وتسليمه في المدة المحددة وبالتقنيات المطلوبة.

ثانيا: تمييز عقد المقاولة من الباطن عن غيره من الأعمال والتصرفات المشابهة

1 – مفهوم المقاولة من الباطن

 

التعاقد من الباطن في الأصل خروج عن المبدأ القائل بأن أطراف العقد هم المعنيين الوحيدين بتنفيذ العقد وعليهم تنفيذ العقد بأنفسهم فإذا كان المقاول الأساسي ملزم بتنفيذ الأعمال المتفق عليها مع صاحب المشروع فإن ذلك لا يعني حتما تنفيذه لهذه الأعمال بشكل شخصي إلا إذا كان التعاقد معه قد تم لاعتبارات شخصية أو قد تم التصريح بذلك صـــــراحة في العقد لذلك يلجأ المقاول الرئيسي إلى ما يعرف بالتعاقد من الباطن كون ذلك يشكل أحد ضروريات العمل.

كما وأنه يعتبر من الميزات الأساسية لعقد المقاولة تخويل المقاول عدة طرق لتنفيذ التزاماته فيتعاقد هذا الأخير مع شخص آخر من الباطن (المقاول من الباطن)، من أجل تنفيذ كل الالتزامات الملقاة على عاتقه أو بعضها في إطار عقد المقاولة من الباطن بالإضافة لأنه يكون بإمكانه إنابة أو توكيل شخص آخر في إتمام بعض الأعمال لاسيما العمال التابعين له عبر إبرام عقود العمل على سبيل المثال لذلك قد يتشابه “عقد المقاولة من الباطن” مع بعض التصرفات كالتنازل عن عقد المقاولة وعقود العمل والوكالة والبيع لذلك كان من الأحرى علينا في ذلك المقال تمييز تلك التصرفات القانونية عن عقد المقاولة من الباطن

2 – التمييز بين “المقاولة من الباطن” و”التنازل عن المقاولـة

 

قد يقوم المقاول الرئيسي بالتعاقد مع مقاول من الباطن لتنفيذ جزء من المشروع المكلف بإنجازه كما قد يتفق معه على تنفيذ كامل أعمال المشروع أو الصفقة وهذا ما يعبر بالفعل عن عقد مقاولة من الباطن إلا أن تكليف المقاول الرئيسي للمقاول من الباطن بتنفيذ كامل مشروع البناء موضوع عقد المقاولة قد يثير بعض اللبس في مدى اعتبار التصرف تعاقد من الباطن أم تنازل عن المقاولة؟!

وتتحقق حالة “التنازل” عندما يتنازل المقاول للغير عن جميع عقد المقاولة بما يشتمل عليه من حقوق فيحل المقاول “المتنازل له” مكان المتنازل في عقد المقاولة، وذلك بخصوص كامل الحقوق والالتزامات الناجمة عن عقد المقاولة باتفاق بينهما، فيصبح الأخير هو المسؤول تجاه رب العمل وبخصوص التمييز بين قيام المقاول بالتنازل عن المقاولة أو إجراء المقاولة من الباطن، ينبغي ملاحظة النقاط التالية:

1- إن عقد المقاولة من الباطن كما أسلفنا هو عقد مستقل يتفرع عن عقد المقاولة الرئيسي كما أنه لا يؤدي إلى إلغاء عقد المقاولة الرئيسي بل تبقى العلاقة التعاقدية قائمة بين المقاول الرئيسي وصاحب العمل.

2- في حالة التنازل عن المقاولة تنتفي العلاقة بين صاحب العمل والمقاول الرئيسي وتحل محلها علاقة جديدة تربط المقاول المتنازل له بصاحب العمل متى تم ابلاغ ذلك الأخير بالتنازل وأقره فتصبح علاقة المقاول المتنازل له برب العمل علاقة مباشرة خلافا لعلاقته بالمقاول من الباطن والتي تبقى علاقة غير مباشرة.

3- إن التعاقد من الباطن لا يؤدي إلى نقل حقوق والتزامات المقاول الرئيسي إلى المقاول من الباطن ويبقى كل طرف ملتزما بما ينجم عن عقده أما عن انطباق حالة التنازل عن المقاولة لا يعد المقاول المتنازل مسؤولاً عن المقاول المتنازل له تجاه صاحب المشروع خلافا لما هو مقرر في المقاولة من الباطن، حيث يبقى المقاول الرئيسي مسؤولاً تجاه صاحب المشروع عن المقاول من الباطن.

ويبقى أهم معيار يستخدمه الفقه في التمييز بين المقاولة من الباطن والتنازل عن المقاولة هو معيار “إرادة الأطراف” فإذا كانت إرادة المقاول الرئيسي تتجه نحو الخروج من العلاقة التعاقدية ليحل محله مقاول آخر في تنفيذ المشروع فيعد التصرف في هذه الحالة تنازلا عن المقاولة أما إذا اتجهت إرادة المقاول الرئيسي إلى الحفاظ على علاقته التعاقدية بصاحب العمل فإنه يعهد لمقاول من الباطن بإتمام بعض الأعمال دون التنازل بشكل تام عن عقد المقاولة الرئيسي.

3 – التمييز بين المقاولة من الباطن وعقد العمل

 

كما سبق وأن أوضحنا فإن المقاول من أجل تنفيذ التزاماته الناجمة عن عقد المقاولة يبرم عدة عقود في آن واحد من أجل تنفيذ تلك الالتزامات وأهم عقدين يبرمهما المقـاول عقد المقاولة من الباطن وعقد العمل ولتوضيح الفارق بين العقدين المذكورين يتعين تحديد أهم ما يميز كل منهما عن الآخر:

أ – وهو أن عقد العمل يتكون من عناصر أساسية تتمثل في (العمل، الأجر، التبعية، الزمن)

ب- أما عن العناصر الأساسية لعقد المقاولة من الباطن فهي (العمل، عقد مقاولة سابق، الأجر، الزمن)

وبذلك يتضح تخلف عنصر التبعية من عناصر عقد المقاولة من الباطن فمقاول من الباطن لا يعمل بتبعية للمقاول الرئيسي بل يؤدي التزاماته بكل استقلالية وبالمقابل فإن العامل يؤدي التزاماته في ظل تبعية قانونية لصاحب العمل تتمثل في سلطة الرقابة والإشراف والتوجيه للعامل في أدائه للعمل ويلتزم هذا الأخير بالطاعة لهذه الأوامر والتعليمات التي يصدرها صاحب العمل تحقيقا لعلاقة المتبوع بالتابع و يتضح من ذلك أن نفس العمل يمكن إنجازه عن طريق شكلين من العقود عقد “العمل” الذي يفترض فيه إنجاز عمل مقابل أجر وبتبعية تامة للمقاول الرئيسي ، أو عقد “مقاولة من الباطن” التي يفترض تنفيذها مقابل أجر ولكن بصفة مستقلة وفي كلا الحالتين يجب تدخل شخص آخر ينفذ العمل لحساب صاحبه.

وحيث أن المادة (1) من القانون الاتحادي رقم 33 لسنة 2021 في شأن تنظيم علاقات العمل عرفت عقد العمل بأنه “هو كل اتفاق يبرم بين صاحب العمل والعامل يلتزم فيه الأخير بأن يعمل في خدمة صاحب العمل وتحت إشرافه وتوجيه مقابل أجر يلتزم به صاحب العمل وفق نماذج العقود التي تحددها اللائحة التنفيذية لهذا المرسوم بقانون ” فقد دلت على أن القانون أخذ بمبدأ التبعية القانونية بحيث يكون العامل تابعا لصاحب العمل وخاضعا لسيطرته وإشرافه، ومن مظاهر هذه التبعية تحديد نوع العمل ومنحه أجراً سواء كان نقدا أو عينا أو في صورة عمولات، ويكفي لتحقق هذه التبعية ظهورها ولو في صورتها التنظيمية أو الإدارية ويختلف العامل في ذلك عن مركز الشريك حيث يكون الشركاء جميعا على قدم المساواة في علاقتهم ببعضهم البعض وفي تحمل ما قد يسفر عنه نشاط الشركة من ربح أو خسارة كما يختلف عقد العمل في ذلك عن عقد المقاولة .

وبالتالي، فإن غياب رابطة التبعية في العلاقة بين المقاول الرئيسي والمقاول من الباطن واستقلالية هذا الأخير لا يعني غياب أية رقابة عليه بل يحق للمقاول الرئيسي رقابة المقاول الفرعي في تنفيذ ما اتفقا عليه، لأن المقاول الرئيسي ملزم بإنجاز المشروع بمواصفات فنية محددة.

4 – التمييز بين عقد المقاولة من الباطن والوكالة

 

من المقرر أن أهم ما يميز الوكالة عن غيرها من العقود ـ وخاصة عقد المقاولة، هو أن محل الوكالة الأصلي يكون دائماً تصرفاً قانونياً، في حين أن المحل في عقد المقاولة هو عمل مادي، وهذا التصرف القانوني يقوم به الوكيل لحساب الموكل، وقد يقوم الوكيل في بعض الأحيان بأعمال مادية تبعاً للتصرف القانوني الذي وكل فيه، ولكن هذا لا ينفى أن مهمة الوكيل الأصلية هي التصرف القانوني، ومن المقرر كذلك أن المقاولة عقد يتعهد أحد طرفيه بأن يؤدى عملا ماديا لقاء أجر يتعهد به الطرف الأخر.

5 – التمييز بين عقد المقاولة من الباطن وعقد البيع

 

قد يظن البعض أن الفارق بين كلا العقدين واضح وبإجلال ولكن سرعان ما يزول هذا الظن في حال التزام المقاول بتوريد المواد أو الخامات التي تستخدم في الانشاءات واستخدامها في عمليات البناء، فهنا يمكننا القول إننا بصدد بيع حيث أن المقاول يعد بمثابة المنتج أو المورد لتلك المواد أو الخامات وبالتالي ينبغي لنا التفرقة بشأن التكييف القانوني في حالة التوريد المشار إليها.

إذا كان العمل الذي يقوم به المقاول وارد على عقار فهنا يمكننا حل المسألة بالرجوع الى ملكية الأرض فإذا كانت ملكية الأرض للمقاول الذي يباشر عمليات البناء عليها فإن عمليات التوريد تلك تعد بيعا وإذا كان المقاول يباشر الأعمال الإنشائية على أرض مملوكة للغير فإن توريد المواد والخامات يكون ضمن عقد المقاولة وليس بيعا.

وإذا كان العمل الذي يقوم به المقاول وارد على منقول فتارة يعد تصنيع المواد وتوريدها بيعا وتارة أخرى مقاولة، والراجح في تلك الحالة لتكييف العقد هو بالرجوع الى المقارنة بين قيمة العمل وقيمة المادة المستخدمة، فإذا كانت قيمة العمل هي الغالبة كان العقد مقاولة وإذا كانت قيمة المواد هي التي تسود فإن العقد يعد بيعا.

بقلم الأستاذ / محمد سعد